Thursday, July 24, 2008

جريدة الأخبار

ترسيم الحدود بين مجهولَيـن... عربيَّين ودوليَّين؟







عصام نعمان *

وليد المعلم في مطار بيروت (هيثم الموسوي)وليد المعلم في مطار بيروت (هيثم الموسوي)ما
هو جوهر المشكلة بين لبنان وسوريا؟ هل هو غياب التمثيل الدبلوماسي، أم
ترسيم الحدود بين البلدين، أم تطبيع العلاقات بين أهل السلطة في كلٍّ
منهما؟

هذه، بلا شك، مشاكل عالقة. بعضها قديم وبعضها الآخر حديث. لكن الفئتين
الحاكمتين في كلا البلدين وخلال جميع العهود التي مرّتا فيها كانتا تجدان
تسويات مقبولة لها. إن جوهر المشكلة، بل الأزمة المزمنة بين البلدين هو
التفاوت أو عدم التكافؤ في زمن التحولات الكبرى التي واجهتها المنطقة مذ
زرع الغرب الكيان الصهيوني في قلبها.

التفاوت بين البلدين يجد ترجمته في ميادين ومواضيع ومظاهر عدّة: المساحة
الجغرافية، عدد السكان، تركيبة المجتمع والعلاقات بين أطرافه، الموارد
الاقتصادية، الإيديولوجيا القومية والسياسية، النظام السياسي ومكوناته
الغالبة، التواصل مع الجوار والعلاقات مع العالم.

في كلٍ من هذه الميادين والمواضيع، ثمة فوارق وتفاوت بين البلدين تتبدى في
مظاهر ومفاعيل مختلفة وتترك آثاراً نفسية وسياسية واقتصادية على كلٍ
منهما، ولا سيما على أهل السياسة فيهما. وإذا أردنا أن نوجز الفوارق
والتفاوت في جملة سياسية معبّرة لقلنا إنها عقدة البلد الكبير الذي يتبرّم
من خصوصية بلدٍ صغير يعتقد، مصيباً أو مخطئاً، أنه جزء منه. فيما يفتقر
البلد الصغير إلى دولةٍ قادرة وعادلة تحمي خصوصيته التي لم تتطور، لأسباب
شتى، لتصل إلى مستوى الاستقلال الوطني والسيادة الناجزة.

زاد من حدّة الأزمة داخل كل من البلدين وفي ما بينهما زرعُ إسرائيل في
جوارهما وقيامها، لتفتيت بلدان الجوار والمنطقة والهيمنة عليها لدوافع
اقتصادية وأمنية. وأسهم في تعميق الأزمة وتفاقمها نزوع أفرقاء في كلٍ من
البلدين إلى محاولة استخدام الآخر منصةً لتغيير النظام السياسي أو للتدخل
في شؤونه. فبعض المسؤولين اللبنانيين تورطوا، لدوافع ثقافية وسياسية ناجمة
عن تربية أوروبية أو أميركية تتماهى مع الغرب في كل شيء، في مخطّطات
أجنبية ترمي إلى النيل من النظم السياسية السائدة في سوريا. وبعض
المسؤولين السوريين نزعوا إلى ممارسة سياسة إلحاقية وأحياناً استعلائية مع
لبنان لدوافع ظاهرها قومي إيديولوجي وباطنها سلطوي ومصلحي.

وإنّه لأمر محزن وبالغ الدلالة أن تفشل القوى القومية والوطنية
والديموقراطية في لبنان وسوريا سحابةَ ثلاثين عاماً من الوجود السوري
الرسمي في لبنان، في تطوير العلاقات بين البلدين إلى مستوى سوق مشتركة،
وعلاقة قومية استراتيجية متكافئة، ونواة صلبة لاتحاد عربي متطور على غرار
الاتحاد الأوروبي.

اليوم يجد مسؤولو البلدين، كما قادة القوى السياسية فيهما، أنفسهم أمام
وضعين أقل ما يُقال فيهما إنّهما مجهولان، بمعنى أنّه من الصعب التكهن بما
يمكن أن يتطوّرا إليه أو أن يتوقفا عنده. كل ذلك بسبب أن العالم، ولا سيما
الولايات المتحدة، يعيش مرحلةً انتقالية مجهولة النتائج والمصائر. وليس من
شك في أنّ مرحلة التغيّر الأميركية ستؤدي إلى تغيّرات في مناطق متعددة في
العالم، ولا سيما في المنطقة العربية والإسلامية كلها. الوضع اللبناني
مجهول، وكذلك السوري. ماذا ينفع تبادل التمثيل الدبلوماسي بين وضعين
مجهولين، وهل من قدرة على ترسيم الحدود بين وضعين مجهولين؟

لبنان ما زال يحاول الخروج من فوضى وشلل سياسيين يعودان إلى تاريخ اغتيال
الرئيس رفيق الحريري. فانتخاب العماد ميشال سليمان رئيساًَ للجمهورية
والتوافق على حكومة ائتلافية برئاسة فؤاد السنيورة تسمّي نفسها
«حكومة وحدة وطنية» يُسهم في إعادة بناء المؤسسات الدستورية،
لكنه لا يضمن إعادة بناء الدولة وإصلاحها وتوطيد الأمن والاستقرار. السبب
هو عدم وجود توافق وطني عام حول القضايا الأساسية: النظام السياسي، دور
لبنان الإقليمي، سلاح المقاومة، علاقة لبنان وسوريا، والأوضاع الاقتصادية
والاجتماعية والمعيشية المتردية.

وضع سوريا لا يقلّ «مجهولية» عن لبنان. إذا كان نظامها
السياسي يحاول الخروج من عزلة سياسية فرضتها عليه إدارة بوش، فإنّ نجاحه
الكامل يتوقف على جملة عوامل، أبرزها مصير العلاقات الأميركية ـــــ
الإيرانية في المستقبل المنظور، مصير المفاوضات غير المباشرة مع إسرائيل،
مستقبل العراق، دور المقاومة عموماً وحزب الله خصوصاً في مواقعها
اللبنانية والفلسطينية والعراقية وفعاليتها على مستوى المنطقة، وأخيراً
انعكاس كل هذه التطورات على مجمل الوضع السياسي في سوريا وعلى قدرات
نظامها السياسي ومستقبله.

ماذا يستطيع بشار الأسد وميشال سليمان فعله في أوضاع متطورة، محلية
وإقليمية ودولية، يصعب فيها إدراك نتائجها ومفاعيلها قبل جلاء مصير اثنين
أو ثلاثة من القادة السياسيين على الأقل ومعرفة خلفائهم: جورج بوش في
الولايات المتحدة، وإيهود أولمرت في إسرائيل، ونوري المالكي في العراق؟

أميركا اليوم، فقدت الكثير من قوتها وغناها وفعاليتها. إنها تمرّ في أزمة
بنيوية في الداخل وحالة تراجع سياسي وأمني في الخارج، لا أحد يعرف إلى أين
تتّجهان بها وماذا ستكون مفاعيلهما ومداهما؟ أميركا إذاً، في وضع مجهول
المصير. إسرائيل هي الأخرى، في وضع مجهول المصير. مردّ ذلك إلى أزمتها
القيادية في الدرجة الأولى. أولمرت خسر الحرب ثم خسر سمعته، وهو الآن في
أفول متسارع. غير أن خروجه من المسرح لا يؤشر بالضرورة إلى دخول قائد جديد
مقتدر. جميع المرشحين إلى خلافته، باستثناء بنيامين نتنياهو، هم من الدرجة
الثانية ويفتقرون إلى شعبية وهالة.

إننا إذاً، أمام مجهولَين عربيين، لبناني وسوري، وآخرَين دوليين، أميركي وإسرائيلي يصعب حالياً ترسيم الحدود بينهما، فما العمل؟

لا يهمنا بطبيعة الحال، أن ننصح مسؤولي أميركا وإسرائيل، ولا تأثير لنا
أصلاً في هذا المجال. ما يهمّنا هو قضايانا، ومن يهمّنا أن ننصح هم
مسؤولونا. لهؤلاء نشير إلى حقيقة ساطعة هي تراجع أميركا (وبالتالي
إسرائيل) سياسياً واقتصادياً وأمنياً في الداخل وعلى مستوى العالم كله.
أجل، أميركا تتراجع ولا حدود منظورة لمفاعيل تراجعها وانكفائها على
الأوضاع السياسية والاقتصادية والأمنية الراهنة في العالم. من هنا يستقيم
القول إنه لا يجوز لذوي العقول والرؤية والالتزام الوطني والإنساني، أن
يخدعوا أنفسهم وشعوبهم بإمكانية وصوابية التوصل في هذه الآونة، إلى تسويات
مقبولة مع العدو الأميركي ـــــ الصهيوني. أميركا تتراجع وكذلك إسرائيل،
فلا يجوز أن تتراجع قيادات الشعوب أصحاب الحقوق ولا قيادات المقاومة وأهل
الجهاد المكافحين في ساحات التحرر وميادين التحرير.

لا تتراجعوا حتى لو كنتم متأكدين أن العدو سوف ينفذ عقابه القاسي بنا لارتكابنا «جريمة» التحرر من نير جبروته الثقيل.

لا تتراجعوا لأن ثمن العقاب مع التحرّر لن يكون أفدح من ثمن السكوت عن
جريمة الاحتلال والهيمنة مع القعود المهين عن القتال طلباً للحرية مع
الكرامة.

* وزير سابق




عدد الخميس ٢٤ تموز ٢٠٠٨

No comments: