Tuesday, October 27, 2009

تركيا :الغاء مناورة ام اعادة تموضع؟

د.امين محمد حطيط
عميد ركن \مفكر استراتيجي
2009\10\ 14

تركيا :الغاء مناورة ام اعادة تموضع؟

بعد ان الغى مصطفى كمال اتاتورك الخلا فة العثمانية في العام 1924 و اتجه بالجمهورية التي انشأها في تركيا نحو
العلمانية المفرطة التي لا تفصل الدين عن الدولة فحسب بل تتخذ وضعاً حذرا من الدين و الدعاة اليه ، ثم نظم الجيش التركي
و اوكل اليه وظيفتين :الاولى حراسة العلمانية الجديدة ، و الثانية الدفاع عن الجمهورية الوليدة و قد نجح الجيش في مهامه
خاصة بعد ان التحقت تركيا بالحلف الاطلسي في العام 1952 و ابدى جيشها تماهياً مع القوات العسكرية لهذا الحلف ، و
نسج مع اسرائيل (صنيعة الغرب و قاعدته في الشرق )، نسج تحالفاً استراتيجياً عميقاً ( لم يعترف به علانية و لكنه مارسه
واقعياً ) ثم خطط لتعاون عسكري بين البلدين راح يتعزز و يتطور دون التفات الى حساسية ذلك مع الدول العربية ، و قامت
في تلك العلاقة التي فيها شيء من الالتباس هوة بين القرار الرسمي الذي تتخذه الحكومة العلمانية و بحمى الجيش ، و بين
الاتجاه الشعبي او العاطفة الشعبية ذات المنطلقات الا سلامية التي ظلت تختزن في الذاكرة مواقف سلاطين بني عثمان
الرافضة و بشكل مطلق منح اليهود حقاً في فلسطين على حساب اهلها الا صليين ذوي الاكثرية الا سلامية.و قد حاول
الا سلاميون الاتراك في العقدين الاخيرين الوصول الى السلطة لكن استعجالهم و حماستهم المفرطة و محدودية خبرتهم
الدبلوماسية افقدتهم الفرص و لم بستطيعوا ان يناوروا بما فيه الكفاية ليتاح لهم البقاء في السلطة في ظل جيش لا يحرس
النظام فحسب بل يكاد يصنع الحكام في الحقيقة .لكن "الاسلامي" رجب الطيب اردوغان استفاد من الاخفاقات و اتجه في
عمله السياسي جامعاً الى الصلابة في المبدأ ليونة في الا سلوب ، و استطاع ان يعبر حقل الالغام في بلد علماني وفقاً
للدستور ، و ان يتجذر رويداً رويداً دون ان يضطر الى مواجهات من غير ضرورة ، و لكنه لم يتهرب من اي مواجهة داخلية
اذا فرضت عليه ، بل يتصدى بعد ان يحشد للامر متطلباته من القوة السياسية و القانونية فضلاً عن الشعبية .
و في السنوات الثلاث الاخيرة ، و بعد ان استقام الحكم "للاسلاميين " في نظام علماني ، بدأ البحث عن الموقع الحقيقي
لتركيا في منطقتها و العالم ، و كان قاسياً عل تركيا ذاك الرفض الاروبي المتمادي لانضمامها الى الاتحاد الاروبي ، رفض
قدمت له الذرائع المختلفة ، و افصح عنه بعض ممن يجرأون على قول الحقيقة من غير دبلوماسية : "لن يقبل الاتحاد الاروبي
في صفوفه دولة اسلامية " خاصة تركيا ذات الحجم و التاريخ المعروفين . فالتقطت تركيا الرسالة و بدأت تبحث عن دورها
في المنطقة و العالم االذي تنسب له ، شرق اوسط؟ و اسلام !؟ .. و هنا بدأ التحول الا ستراتيجي التركي .الذي يحتاج
لنجاحه لعناصر اساسية ثلاثة لا بد منها : اولها حسن الجوار مع المحيط ، و الثاني الاهتمام بالقضية المركزية في الشرق
الاوسط ، و الثالث تجنب القطيعة او الجفاء مع اميركا و اروبا خاصة في مرحلة الابتعاد التدريجي عن موقع التابع او على
الاقل الحليف غير المتكافئ .
و في الترجمة العملية طرحت مسألة تسوية العلاقات التركية السورية التي شهدت " مآسي مؤلمة " في بعض فصولها ، و
تلقفت سوريا الفرصة لاكثر من سبب و يمكن ذكر اهمها بان سوريا تقدم المسألة الفلسطينية و الصراع مع المشروع
الصهيوني على ما عداه ، و نج ح الفريقان بعد مسيرة لم تتعد بضع سنوات من قلب صفحة العداء و الجفاء ، وابدالها
بالنقيض وصولاً الى الغاء التأشيرة بينهما وانشاء المجلس الاستراتيجي المشترك المولج بنظم العلاقات بين البلدين .و بعد
ذلك كان التحرك باتجاه الارمن لوقف مفاعيل التاريخ المأسوي معهم ، و العمل للمستقبل و ها هي تقطع الشوط النهائي في
لمّ القضية الارمنية .
و مع تصقية العلاقات مع الجوار كان السلوك التركي حيال مسألة الصراع مع اسرائيل ، فكانت فكرة التفاوض غير المباشر
بين سوريا و اسرائيل بوساطة تركية ، و تلقفتها سوريا لان في الطرح زحزحة لتركيا عن موقع الحليف لاسرائيل الى موقع
الوسيط و هو ما يفرض التوجه الى الوسط و فيه كسب للقضية العربية . و تابعت تركيا مسيرتها التى تجاوزت العرب في
مواقفها نصرة للفلسطنيين و كان الموقف التركي الشهير في "دافوس" في كانون الثاني الماضي حينما انسحب رئيس
وزرائها رجب اردوغان من الجلسة احتجاجا على السلوك الاسرائيلي و مخاطباً بيريز بقوله "صوتك العالي يثبت أنك مذنب
لان الجيش الإسرائيلي يقتل الأطفال على شواطئ غزة" انسحب لينتصر لاطفال غزة في حين ان معظم العرب الحاضرين لم
يحركوا ساكناً . و اليوم تقرر تركيا و من قبل اردوغان نفسه الغاء مناورات عسكرية كانت ستشارك فيها اسرائيل ، متذرعة
1
تركيا الغاء مناورة ام اعادة تموضع
د.امين محمد حطيط
2009\10\ عميد ركن \مفكر استراتيجي 14
بالسبب القديم نفسه : "طائرات قصفت غزة لن يسمح لها ان تحلق في سماء تركيا " و اضافت عليه سبباً جديداً مضمراً هو
مسألة المسجد الاقصى ، و انتهاكات الصهاينة لقدسيته و حرمته .
و هكذا بات من الممكن القول ان تركيا التي نجحت بنسج علاقات حسن جوار مناسبة ، و دخلت الى المنطقة من الباب
الرئيسي :باب الصراع العربي الصهيوني ، و هي و ان لم تصل الى السقف الذي بلغته ايران لتصبح عدواً لاسرائيل ، و هو
امر غير محتمل و غير مرتقب في السنوات القليلة المقبلة ، فانها حجزت لنفسها موقعاً قابلاً للتطوير و التقدم . و بعد كل ذلك
تطرح الاسئلة الاستراتيجية الكبيرة :
هل ستبتعد تركيا عن اسرائيل الى حد يغضب اسرائيل و يحملها على البدء بالتعاطي معها وفقاً للاسلوب الذي تعتمده ضد
ايران ؟ ثم هل سيكون تنافس بين ايران و تركيا في المنطقة ام تكامل في التعاطي مع المسألة الفلسطينية؟ و هل ستكون
علاقات تركيا مع سوريا على حساب العلاقات السورية الايرانية ؟ و هل ستتابع تركيا اندفاعتها ؟ ثم هل سيخسر الحلف
الاطلسي عضواً باهمية تركيا ، بعد ان سد باب الاتحاد الاروبي بوجهها ، و بالاجمال ماذا تريد تركيا؟.
مقابل هذه الاسئلة نرى، ان تركيا تتحرك اليوم للتعويض عن دور فقدته في المنطقة منذ حل الخلافة العثمانية ،و لم تستطع
ان تجد ما يناسبها في موقعها اللصيق بالغرب وباتت على قناعة ان اميركا لا تعطي من يعمل معها دورا قياديا ، فالسياسة
الاميركية تقوم على ذهنية الاستتتباع حتى و لو كانت الدولة بحجم فرنسا او بريطانيا ، و لكن تركيا في حركتها لن تصل
الى مستوى القطيعة او الجفاء مع اميركا و اسرائيل التي تحرص هي بدورها على تلك العلاقة الاستراتيجية خاصة بعد ان
فقدت منذ ثلاثة عقود علاقتها بايران . كما ان تركيا لن تكون بديلاً لايران في الميدان السوري ، فالعلاقة الممتازة بين سورية و
تركيا هي علاقة ضرورية لسوريا من اكثر من وجه ، و لكنها غير كافية لسد الاحتياجات الاستراتيجية السورية لاكثر من
سبب ، و اعتقد ان تركيا تعلم ذلك و لن تحاول العمل باسلوب الازاحة ، لتبعد ايران و تحتل مكانها ، خاصة و انها ترى ان
الفضاء السوري يتسع لحليفين استراتيجيين و يمكن تلمس طريق تكاملهما في هذا الفضاء و ان كان تنافسهما في الفضاء
الاوسع امر لا يمكن استبعاده رغم ان انشائهما لمثلث استراتيجي متكامل مع سوريا يكون لمصلحة الجميع . ان تركيا تعيد
اليوم النظر في دورها وفقاً لواقع المنطقة و البيئة الاستراتيجية القائمة فيها لتحتل موقعا تطمح اليه ، و هو سلوك قد يستفيد
منه العرب اذا حاولوا ، فهل يفعلون ؟ ام يفرطوا به كما فرطوا سابقاً بايران ؟

العميد الدكتور امين محمد حطيط




Powered by ScribeFire.



No comments: